الاقتصاد

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: الدولة المخصية.. بين الانهيار السياسي ومقاومة الاستبداد من الداخل

في زمنٍ تتعالى فيه آهات الشعوب تحت وطأة الخذلان السياسي والانكسارات الاجتماعية، تطفو على السطح صورة الدولة المخصية، كمرآة عاكسة لحالة العجز الجماعي والتدهور البنيوي الذي ينهش جسد المجتمعات العربية. إنها ليست مجرّد استعارة لغوية، بل وصف دقيق لحالة الانقطاع الوجودي بين الحاكم والمحكوم، بين الروح والواقع، وبين الحلم والحطام.

الخصاء كرمز: من الجسد إلى الفكرة.

الخصاء، في بعده الرمزي، لا يُختزل في فعل جراحي أو بيولوجي، بل يتحول إلى استعارة للانقطاع التام عن دورة الحياة: انقطاع في الفكر، في السياسة، في الإبداع، بل وحتى في الكرامة. الدولة التي تُقيد حرية مواطنيها، وتكبت أحلامهم، وتجردهم من حقهم في التفكير، تُنتج شعبًا مشلولًا عاجزًا عن البناء أو المقاومة. وهنا يتجلى “الخصاء العقلي” كحالة من العقم الثقافي، و”الخصاء السياسي” كإقصاء للقدرة على الفعل، و”الخصاء الاجتماعي” كموت للروح الجمعية.

“بيع الخصيتين”: مأساة مضاعفة على هامش الدولة

ما كتبه الروائي العراقي حمزة الحسن /عن ظاهرة بيع الخصيتين في بعض المدن العراقية ليس سوى وجه آخر من وجوه العجز المؤسسي. ففي بلد أنهكته الحروب والفساد، يجد المواطن نفسه مهددًا بين أن يبيع جزءًا من جسده أو يبيع كرامته، في محاولة يائسة لتجاوز أزماته المعيشية. المفارقة أن أجهزة الدولة، بدلًا من معالجة الأسباب، تلاحق من يحاول النجاة، فتتجلى قسوة النظام الذي يضحي بأفراده ثم يجرّم محاولاتهم الفردية للنجاة، في صورة مأساوية لخصاء عضوي يقابله خصاء أخلاقي عميق في بُنية الحكم.

الهوية العربية بين الجمود والانقسام

إن أعظم مظاهر “الخصاء” ليست جسدية، بل ذهنية، عندما يُفرض على العقل العربي العيش داخل قوالب مغلقة وثنائيات قاتلة: إما مع أو ضد، إما خائن أو وطني، إما متدين أو علماني، فتغيب القدرة على النقد والإبداع والتجديد. العقل المخصي هو الذي يخشى السؤال، ويرتعد أمام الفكرة، ويُفضل العيش في ظلّ التكرار والتبعية، على أن يخوض مغامرة الحرية.
الجيوش المخصية: من الهزيمة إلى الغياب.

اقرأ أيضًا:  إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة بطريق الفيوم الصحراوى

في بلدان كالعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان والصومال ، سقطت الجيوش قبل أن تُهزم، وانكشفت هشاشتها البنيوية تحت ضربات الخارج، ولكن –وهو الأهم– تحت وطأة الفساد والتسييس والانقسام الداخلي. لم يعد الجيش حامي الأمة، بل صار انعكاسًا لبنية مشلولة تخشى التجديد، وتستنسخ الفشل. ولعل تراجع دور الجيوش العربية في دعم المقاومة في غزة ولبنان يُعد تجليًا صريحًا لهذه الحالة من الشلل واللافعالية، في ظلّ أنظمة تُعلي ثقافة الخوف، وتُقيد أي إمكانية للمبادرة.

من الخصيان إلى الثوار: لمحات من التاريخ

تاريخ الشعوب لا يخلو من المفارقات. ففي الصين، قاد الخصيان انتفاضة كبرى عام 1813 ضد سلالة “تشينغ” المستبدة. المفارقة هنا أن من حُرموا من الخصوبة الجسدية، امتلكوا القدرة على التمرد وتغيير المعادلة. هذا يعيد طرح سؤال وجودي في حاضرنا العربي: هل يمكن لأجيالنا المقهورة، التي أُخصيت روحيًا وفكريًا، أن تتحول إلى قوة تغيير تقلب الطاولة على من أجهضوا أحلامها…؟

دعوة إلى مقاومة الداخل: البناء لا الهدم

إن مقاومة الاستبداد لا تبدأ بالبندقية، بل بالفكرة. في عالم عربي تتعقبه أجهزة الرقابة، وتُجّرم فيه حرية الرأي، تصبح المقاومة الحقيقية فعلًا من الداخل: من إعادة بناء الثقة بالذات، وتحرير الفكر من قوالب الإذعان. إنها دعوة إلى التمرد على الذل، لا بخلق نماذج بطولية نمطية، بل بتأسيس مجتمع نقدي حر، يحتفي بالاختلاف والتجديد.
نحو مشروع نهضوي: حلف عربي جديد…؟

في زمن تتشكل فيه التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، آن الأوان أن يعيد العرب التفكير بمفهوم الوحدة. ليس بالحنين الرومانسي، بل من خلال مشروع عملي يُعيد ضبط الإيقاع العربي ويكبح التشرذم. ربما نحتاج إلى حلف عربي على غرار الناتو، ليس كتحالف عسكري فقط، بل ككيان جامع لإرادة سياسية وشعبية تنهض من رماد التبعية.أخيرًا : من الظلام يولد النور..

اقرأ أيضًا:  “المهنا” في #خطبة_الجمعة من المسجد النبوي : من أصول أسباب الثبات على الدين اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولزوم سنته، والاقتداء به

فكرة “الدولة المخصية” ليست مجازًا لغويًا يُراد به الشتم أو التجريح، بل تشخيصًا لحالة انفصام بين الإنسان وسلطته، بين المواطن وكرامته. إنها دعوة ملحّة للتفكير في مستقبل لا يُقاس فيه الإنسان بجزء من جسده، ولا يُباع فيه الشرف على مذبح البقاء. في قلب هذا الظلام، يظل الأمل حاضرًا، شرط أن نملك الشجاعة للبدء من الذات، وأن نوحّد طاقاتنا نحو مشروع عربي إنساني جامع، يُعيد الاعتبار للعقل، للكرامة، وللهوية.

فهل نملك شجاعة الخروج من زمن الخصاء، إلى زمن الخلق والبناء….؟

. .us46

مادح مخلف

مادح مخلف، محرر في موقع "ميدان الأخبار" لدي خبرة لعدة سنوات في مجال الصحافة والإعلام، خاصة أخبار التعليم والرياضيةـ، كما أسعى دائماً لتقديم محتوى متميز يلبي اهتمامات قراء الموقع, الايميل: [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى