
ما تزال خيوط اللعبة في الشرق الأوسط تُنسج بأصابع الغرب، وتُخاط بدماء الأبرياء، بينما تتقد النيران في جسد الأمة العربية والإسلامية، لا لذنب إلا لأنها تُشكّل ـ في المخيال الغربي ـ خطراً وجودياً، حين تتماسك، وتتحد، وتستعيد ذاكرتها الحضارية.
إن ما تفعله إسرائيل من جرائم إبادة، واغتيالات، وفتن، وزعزعة للاستقرار، ليس إلا وظيفة أصيلة ضمن صفقة تبادل مصالح: تحافظ فيها إسرائيل على تفوقها العسكري والسياسي، بينما يحصد الغرب الأرباح من بيع السلاح، ومن تقسيم المنطقة، وإضعاف شعوبها، وسحق طموحاتها.
الهدف الحقيقي أعمق من المكاسب المادية. فالمشروع الغربي منذ قرون ليس قائماً على الاقتصاد فحسب، بل على الهيمنة الفكرية والحضارية. الخوف من عودة “الخلافة” ليس وهماً، بل هاجساً متجذّراً في اللاوعي الأوروبي. فهل كانت الخلافة الإسلامية بلاءً على أوروبا، كما يُروج له؟ أم كانت هي الجسر الذي نقلهم من ظلمات العصور الوسطى إلى فجر النهضة؟
يكفي أن نعيد قراءة التاريخ بعين منصفة لنكتشف أن المسلمين ـ حين فتحوا أوروبا ـ لم يحرقوا مكتبة واحدة، ولم يشنقوا عالماً، بل فتحوا أبواب الأندلس للعلم والفن والطب والفلك، بينما كانت محاكم التفتيش تحرق الناس باسم الرب في قلب الكنيسة. كانت الخلافة، برغم أخطائها السياسية، حضارة قامت على الشورى والعلم، ولم تكن مشروع إبادة.
لكن الفتوحات حينها كانت تستند إلى مبادئ دينية وعسكرية، واليوم نحن أمام عالم جديد. عالم تحوّل فيه الهاتف الذكي إلى سلاح، والبرمجيات إلى جبهات، وأصبح بإمكان شاب في صنعاء أو القاهرة أو مدغشقر أن يشلّ بنية اقتصادية كاملة في الغرب بمهارات رقمية فقط. هذا التحول التكنولوجي يفرض موازين قوى جديدة، لا تُقاس بعدد الطائرات أو الدبابات، بل بعدد العقول المبدعة، والشعوب المتماسكة.
في ظل هذا الواقع، يبقى أمام العرب والمسلمين سؤال مفصلي: هل الخيار هو الانتقام والثأر؟ أم السعي لتوازن المصالح، والندية، والشراكة التي تحفظ لكل طرف كرامته؟ هل نستسلم لما تفعله إسرائيل بالقوة والدم، أم نرد عليها بالبناء والعلم والرفاهية؟ العالم لا يحترم الضعفاء، لكنه يهاب من لا يموت، ومن ينهض بعد كل نكسة، ومن يبني رغم كل جراحه.
المفارقة العجيبة أن الغرب، رغم كل ما وصله من حضارة، لا يزال يفكر بعقلية الحملات الصليبية والاستعمار المباشر، لا سيما حين يتعلق الأمر بالمسلمين. اليمن، هذا البلد الذي يئن تحت الحصار والدمار منذ أكثر من 15 عاماً، لا يزال يرعب إسرائيل وبعض العواصم الغربية، لأن فيه روحاً لا تُقهر، وصبراً لا يُهزم، وإرادة تصنع المستحيل.
إنها دعوة للعقل الغربي أن يُفيق من سكرات ماضيه الدموي، وأن يتوقف عن التعامل مع المسلمين كـ “تهديد”، وأن يفهم أن ديننا لم يكن يوماً دين حرب، بل هو القائل: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” [الأنفال: 61]. فليكن السلم، إذاً، خياراً نبيلاً لا خضوعاً، وليكن العدل أساس العلاقات، لا الاستعلاء والاستغلال.
وأخيراً، هذا إنذار وليس تهديداً، وتذكير لا وعيد. أنتم ـ يا أهل الغرب ـ تعرفون من هم الإسرائيليون، أنتم الذين طردتموهم من كل عواصمكم، ورفضتم احتضانهم قروناً طويلة، قبل أن تُقيموا لهم كياناً على أرض غيرهم. فإما أن تختاروا الانتحار مع مشروع إسرائيل، أو تحلموا معنا بمستقبل سلام واحترام متبادل، فيه تتقدم الشعوب لا تتقاتل، وتُبنى الحضارات لا تُهدم.
. .lq4z